الثلاثاء، 5 فبراير 2019

مفهوم العبادة في الديانات الوثنية


مفهوم العبادة في الديانات الوثنية له معنى مختلف عما هو شائع , ففيما يعتبر الكثيرون أن
العبادة مرتبطة بالتذلل الدائم للمعبود من أجل ما يسمى بالآخرة فإنها لدى الوثنيين منذ القدم تعني شيئاً مختلفاً , في هذا المقال سنناقش عدة معانٍ للعبادة.

سنبدأ بالقول أن الكثير من الوثنيين اليوم و الذين أتوا من خلفيات إبراهيمية أو لادينية يرفضون كلمة عبادة بشكل تام , لأن ما علق في أذهانهم هو ما تعلموه من أديانهم السابقة أو من توجهاتهم اللادينية التي ترفض العباة , و عوضاً عن ذلك يستخدمون عبارة "العمل مع" فمثلاً في المنتديات و المجموعات الوثنية المتكلمة بالإنكليزية ستألفون عبارة مثل I work with Hekate (أنا أعمل مع هيكاتي) أو What Gods do you work with ? (أي آلهة أنت تعمل معها ؟ أو ما هي الآلهة التي تعمل معها ؟) في حين أن هناك جدال حول استخدام هذه العبارات , لأن الفئة من الوثنيين التي تعمقت في التاريخ القديم للوثنية و أدبها و فلسفتها تعتبر استعمال هذه الأسلوب تقليلاً من احترام الآلهة , و بشكل عام فإننا لا نستطيع أن نطالب الآخرين بتغيير ما يعتقدون به فقط لأننا لا نوافقهم الرأي و من هذا المنطلق فإن النقاش الآتي لا يهدف إلى مطالبة الآخرين بترك استعمال هذه العبارة.

تاريخ الوثنية حافل بالعبادة منذ قديم الزمان عبد الإنسان الآلهة و الأرواح , شواهد هذا موجودة في كل الآثار و الكتابات و حتى في أسماء الأشخاص قديماً (عبد اللات , عبد شمس , عبد الله...) تخلل كل ذلك مفهوم العبادة و تقديم الاحترام للآلهة , إن ما تمت ملاحظته هو رفض الآخرين لاستعمال هذه الكلمة "العبادة" رغم أنهم في الواقع يقومون بكل طقوس العبادات الوثنية , و ذلك بسبب أفكار مثل أن الإنسان واحد الله أو الآلهة (فلسفة وحدة الوجود) أو أننا متساوون معهم أو أن الآلهة مجرد طاقات يمكن العمل بها... بالطبع فإن من يأخذ بهذه الفلسفات و يعتبرها مناسبة فلا سبب يمنعه من إكمالها. لكن هذه الفلسفة لا تُعتبر وثنية صرفة بل غالباً ممزوجة بأفكار العصر الجديد New Age و الفكرة الجديدة New Thought.

في الوثنية تُعتبر الآلهة أعلى منا فمثلاً في الديانة اليونانية يُطلق على الآلهة كلمة "الخالدون" بينما يُطلق على البشر و غيرهم من الكائنات التي تموت كلمة "الفانون" , إن هذا ليس تقليلاً من شأن الإنسان , في الواقع إن هذه هي الحقيقة و القبول بها تواضع و ليس ذلّاً و لا تكّبراً , لننظر للموضوع ببساطة , الإنسان و الحياة على الأرض يحتاجان للكثير للاستمرار بالعيش , الإنسان بحاجة للشمس , للقمر , للأرض , للماء , للنار , للمشاعر , حتى أننا كمجتمعات بحاجة للتجارة , للعلوم و لآلاف الأمور الأخرى , الفلاح الذي يعتاش من حقله , الصياد في البحر , الحطاب في الغابة... هم بحاجة لهذه الأمور و إلا لفقدوا الكثير , لا يمكننا أن نتساوى مع الشمس , لا يمكننا أن نتساوى مع الأرض , نحن بحاجة للأرض لكنها ليست بحاجة لنا و بالتالية لسنا مساوين لها بل بحاجة لها , هذا لا يعنني أننا أذلاء و بلا قيمة , على العكس , لطالما تحدثت الأساطير الوثنية عن مدى أهميتنا و أهمية كل الكائنات و كل نفس في الحياة , لكن هذا لا يغير من الحقيقة شيء , حقيقة أننا بحاجة , هذه الحقيقة التي تكسر غرور الإنسان و رغبته الدائمة في السيطرة التي دمرت حتى الآن الكثير و الكثير الذي من الصعب بحيث لا يمكن تخيله أن نسترجعه...

و من هنا أتى مفهوم العبادة في الوثنية , عندما نعبد الآلهة فنحن على تواصل معها , نشكرها و نسبحها و نطلب منها , عندما نتوجه للصوامع فنحن ندخل مكاناً يفصلنا عن ماديات العالم , نترك تعلقنا المادي و نتوجه للروح , نعيد اتصالنا الذي فقدناه بالطبيعة و الآلهة و نلمس المقدس كما لو أننا نولف أنفسنا على مدار أعلى و أرقى , إذاً فالعبادة تعلي من شأننا عن طريق تواضعنا و اعترافنا بالحاجة للآلهة , فلنشبه الأمر بالعلاقة بين الطفل و والديه , هو بحاجة لهما في كل لحظة في حياته , إن حياته متعلقة بهما , هما من يطعمه و يدفئه و يربيه... و عندما يطلب من والديه شيء فهذا لأنهما أعلى منه و أقدر , في أحيان يلبيان طلبه و في أحيان أخرى يرفضان لأنهما أدرى بمصلحته , لكن هل هذا يعني أن الطفل بلا قيمة تجاه والديه ؟ بالطبع لا , فهما يعتبرانه أثمن ما في الوجود و سيحبانه حتى لو قصر تجاههما , و كذلك الآلهة تنظر إلينا حتى لو نعبدها , لكن عبادتنا لها هي العلاقة التي نوطدها معهم , هي ليست علاقة "استعباد" بل "عبادة".

تطور طرق العبادة :

مرت العبادة الوثنية بأطوار عدة رافقت الإنسان دوماً , و لطالما تكيفت مع نمط تفكيره و اختلفت باختلاف الثقافات و التقاليد , حتى أن البشر وقعوا بأخطاء أثناء تأديتها , فقد مارس البشر تقديم أضاحٍ بشرية (ما موقف الوثنية من الأضاحي البشرية ؟ لمعرفة ذلك يرجى قراءة هذا المقال) و الحيوانات (حتى الآن  يمارس البشر من مختلف الأديان تقديم أضاحٍ حيوانية) و لكن الآن و بسبب تأقلم الوثنية مع قوانين المجتمع المدني و مع ميول البشر الذين قد يكونون نباتيين فإن التقدمات قد تكون من النباتات , العصائر أو حتى قطع نقدية تُقدم للهيكل أو الضريح كما في هياكل أو أضرحة الشنتو في اليابان , حتى قديماً كان يمكن الاستعاضة عن تقديم ثور كأضحية بأن يخبز الشخص كعكة على شكل ثور كما كان يحدث في اليونان.

و كذلك الخطوات التي يتم بها طقس العبادة شهد تغييراً حسب الزمان و المكان , لكن بشكل عام احتفظ بجوهره الأساسي.

و بهذا فإننا نرى أن العبادة ليست شيئاً بدائياً ولى عليه الزمن أو أنه أقل روحانية من الفلسفات الجديدة التي ترى الإنسان و الله واحد , بل على العكس هي تربط الإنسان بالآلهة و بما حوله من قداسة و تكسر غروره التي عانى الإنسان نفسه منها كثيراً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق